مصطفى محمد أبو السعود // كاتب ومدون -غزة – فلسطين
مما يزيد في صدق كتابة الانسان وجعل ما يكتبه يلامس قلوب القراء، معايشته تفاصيل القضية التي يكتب عنها، سواء فرحاً أو حزناً، وإلا، سيقل تأثير الكاتب بالقراء، وسيفتقدون دسم الدهشة في كلماته.
حاولتُ مراراً الكتابة عن تجربة النزوح والنازحين، لم يكن الأمر سهلاً، ولم تسعفني الكلمات؛ لأني لم أكن أحد أعضائها بالمعني الدقيق للكلمة بعد، صحيح كنتُ مسئولاً عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لكن لم أعش بخيمة، على اعتبار أن محافظتي لم يصلها اشعار بالإخلاء بعد، وهنا يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل” الشوف مش زي الخراف” يعني” من يرى ليس كمن يسمع”.
أما منذ شهر مايو2024 إلى الآن _وإلى أجلٍ غير مسمى_، فقد دخلتُ نادي النازحين بما فيه من ألمٍ ومعاناة، فالآن أكتبُ ودمعُ العينِ ينسكبُ عن تجربةِ النزوح.
فالنزوحُ أيها السادة ليست كلمة تُقال، أو فعل يمارسه الانسان وهو في كامل الفرح والسرور، بل يمارسه وهو في كامل القهر والحرمان، وهو أن يخرج من بيته بعد وصول اخطار له من طائرات الاحتلال، أو وصول صواريخ الاحتلال لتجبره دونما تفكير على اخلاء بيته أو منطقة سكناه ليصبح هائماً على وجهه يبحث عن مأوى له ولعائلته، وهنا يُصاب الانسانُ بالخوفِ والقهر حين يشعر بأن عليه اخلاء بيته الذي بناه على مدار سنوات، وله في كل ركنٍ، درايةٌ ورواية.
لقد كنت مسئولاً عن مخيم امير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة والذي يحتوي على 100 خيمة بعدد أفراد يصل الى 800شخص ولكل فرد احتياجات حسب سنه وجنسه
كنت اتابع امورهم باهتمام وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم من خلال التواصل مع المؤسسات المانحة والداعمة، كما كنا ننفذ أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال وندوات توعوية للنساء، وفتحنا مركز لتحفيظ القرآن كان مقره في بيتي الطابق الثاني حتى نشعرهم بالأمان.
كنت أرى في أعينهم الأسى واستمع لقصصهم فلكل انسان قصة، منهم من كان يتجهز للسكن في شقته الجديدة الجاهزة لكن الحرب لم تمهله، ومنهم من لم يمر على سكنه في شقته سوى أيام او أشهر قليلة، ومنهم من لم ينته من تجهيز بيته، ومنهم من لم يسدد أقساط بيته الجديد بعد، ولكل نازح رواية لا تكفي لسردها ألف ليلة وليلة.
وبالعودة لعنوان المقال، ف (أن تكون نازحاً !)، يعني:
_ أن تبدأ رحلة البحث عن مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس منذ طلوع الشمس حتى بعد غروبها، وأبسط مثال قد تمشي مسافة نصف كيلو متر حتى توفر قالون ماء.
_أن تقضي وقتاً طويلاً في البحث عن الحطب والكرتون لمعاونة زوجتك في صناعة الخبز لأطفالك في ظل انعدام الغاز.
_ أن تبقى لمدة أسبوعين وأكثر دون استحمام، وملابسك دون تبديل؛ لأنك لم تتمكن من احضار ملابسك كاملة حين غادرت منزلك..
_ أن قضاء حاجتك يسبب لك حرجاً، فكل مخيم به حمام عام، ودخولك أنت أو أحد أفراد اسرتك للحمام يشعركم بالحرج خاصة النساء، وحتى الحمامات التي تكون داخل الخيمة تخضع لقانون الدور والترتيب.
_ان معاناتك تتفاقم بوجود أطفال ومرضى وكبار السن، فجميعهم يحتاجون لطعام خاص ورعاية خاصة وهدوء وراحة، وهذه الامور يتعذر توفرها دوماً.
_ ألا تشعر بالأيام وهي تمر سريعاً، فما أن يبدأ الأسبوع حتى ينتهي، وربما هي نعمة.
_أن تهتم بمتابعة الاخبار لتعرف أين وصلت الأمور، ثم تصاب بخيبة أمل حين لا تأتي الأخبار بما يسر القلب.
_ أن تصبح خبيراً بكل أنواع الطقوس المجتمعية التي كانت في بلدك وانت لا تعرفها.
_ أن تفرق بين المهم والأهم، والضروري العاجل والضروري غير العاجل.
_ أن تدرك أن قيمة المرء فيما يحسنه.
_ أن تتأكد بأنك قد تصبح الشهيد التالي.
لكن رغم المصائب في غزة، وخاصة في مخيمات النزوح رأينا الأمل والعزة والفخر في نفوس الناس فمنهم من تزوج في الخيمة، وناقش رسالة الماجستير في الخيمة، ومن وضعت مولودها في الخيمة، وحفظ القرآن في الخيمة، ومنهن من تَكوّن في رحمها جنينٌ وهي في الخيمة، ومنهم من أكمل فصله الأخير في الجامعة للحصول على بكالوريوس تربية إسلامية وهو في خيمة مثل كاتب هذا المقال.
اجمالا، ما سبق هو غيض من فيض مما نعانيه في مخيمات النزوح، لكن يبقى أملنا بالله قوياً ليرزقنا نصراً مؤزراً قريباً عاجلاً إن شاء الله، رغم عواصف الشتاء.
وللحديث بقية مع الجرح الثالث من جروح النزوح.