متابعة وإعداد التباع ادريس//
ظل البشر على مر التاريخ يسعون الى فهم الظواهر الكونية المستعصية، كالبرق، الكسوف، الخسوف وسبب رجوع الأجسام الى الأرض، واعتقد اليونانيون أن سر الطبيعة ينبثق من أربعة عناصر هامة ورئيسية “النار، الهواء، الأرض، والماء”.
في القرن الخامس قبل الميلاد، افترض “إمبيدوكليس(1)” أن الآلهة “أفروديت(2)” خلقت العين البشرية من العناصر الأربعة، وأنها أشعلت النار في العين التي تبعث الضوء الذي يسقط على الأشياء، وتنعكس صورتها على أعيننا، حيث افترض العديد من فلاسفة اليونان وجود تفاعل بين الأشعة المنطلقة من العينين والأشعة الصادرة من الاجسام، كما تفلسفوا في شرح مفهومي الظلام والضوء حتى اخد هذا الجدال حيزا كبيرا في كتابات الفلاسفة والعلماء منذ القدم، وهي مسألة تتجاوز الحدود الثقافية والزمنية الفاصلة بين البشر على مر العصور. وأثارت هذه الاشكالات مخيلة اجدادنا القدماء الى يومنا الحاضر مع العلماء المعاصرين، مع وجود طموح جماعي كبير للوصول الى تفسير مقنع لأسباب هذه الظواهر الطبيعية.
مع تطور العلم، ومنذ الثورة العلمية في أوروبا على يد العالم الرياضي “تيكو براها” مرورا ب”نيكولا كوبرنيك” الى “اسحاق نيوتن” و”غاليليو” الى يومنا هذا، حاول العلماء شرح كيفية انتقال الضوء في الفضاء ومن ماذا يتكون؟ فقاموا بتجربة مثيرة للتأكد من طبيعته الفيزيائية، هل هو جسيم أو موجة؟ لكن المفاحئة بدت صادمة وغير مفهومة ،حيث اكدت أن الضوء يتصرف بشكل غريب وغير اعتيادي أثناء هذه التجربة.
فقد نشر “توماس يونغ(3)” في القرن الثامن العشر، نتائج هذه التجربة والتي أوضح فيها تداخل الموجات الضوئية، وكأننا نتعامل مع موجات ميكانيكية على غرار موجات الماء والصوت…حيث سمح لحزمة دقيقة من ضوء الشمس أن تمر خلال ثقب من نافدة عاتمة في منزله، ثم سمح لإشعاع الضوء بالمرور عبر شقين ضيقين ومتوازيين ،لتسقط اشعتها فوق حاجز(4). وقد شاهد نمطاً للتداخل مكوناً من مناطق متبادلة مضيئة ومظلمة تسمى الأهداب على هذا الحاجز الموضوع وراء الشقين. هذه التجربة مكنت “يونغ” بالخروج باستنتاج علمي هام جدا، هو أن الضوء عبارة عن ظاهرة موجية تشبه الأمواج الميكانيكية الأخرى، كما تمكن أن يحسب الطول الموجي للضوء لأول مرة في تاريخ العلم، واستنتج ان اثار الضوء على الجانب الآخر من الشقوق تعطي نفس نتائج تجربة تداخل الموجات المائية التي اجريناها في اقسام الثانوي.
بعد تجربة “يونغ” يبدو اننا حسمنا في طبيعة الضوء، والخروج باستنتاج ثوري سيقلب موازن العلم، هو أن الضوء عبارة عن موجات لا غير تنتشر في الفضاء، بخلاف فرضية “اسحاق نيوتن” التي تؤكد ان شعاع الضوء عبارة عن جسيمات دقيقة تتحرك بسرعات عالية.
ولكن مهلا لم ينتهي الأمر الى هذا الحد…
بعد ذالك قام علماء بقذف شاشة حساسة بالكترونات بواسطة مدفع الكتروني، وكانت النتائج صادمة للمجتمع العلمي…وغير متوقعة الى حد الجنون. ولكن كيف ذالك؟ وماعلاقة تجربة قدف إلكترونات على شاشة بتجربة “يونغ”؟
من البديهي ان قذف أجسام مادّية على حاجز يوجد فيه شقين، يعطينا إسقاطا لصورة الشقين على الحاجز عن طريق إصطدام الاجسام بهذا الحاجز، سواء كان شق واحد او أكثر، لكن قوانين فيزياء الكم تخبرنا بنتائج عكسية تماما عبر معادلة انيقة تشبه قصيدة شعر ابدع في كتابتها العالم النمساوي “ايروين شرودنغر(5)”، في الحقيقة هي ليست معادلة ولكنها مجموعة من المبادئ العلمية التي تفسر سلوك المادة وتفاعلاتها مع الطاقة على مستوى الجسيمات الدقيقة.
رغم ان الالكترون مادة، له حجم وكتلة، ولكن خلال التجربة فانه يتصرف مثل موجة بفعل السرعة الفائقة، ويبدأ بالتصرف بطريقة غريبة، فاثناء التجربة يبدو الأمر وكأن مسار كل الكترون متحرك يمر عبر الشق الاول والثاني في نفس الوقت!!!،نعم الإلكترون سياخد مساره عبر كل الشقوق وفي نفس الوقت!!!
لنتخيل كم أصبح هذا الأمر اكثر إرباكا وحيرة للعلماء، لدرجة لم يعجبهم أمر هذه التجربة الغير المألوفة. وقاموا بإعادة التجربة مرة ثانية! مع وضع مستقبلات متطورة لرصد من اي من الشقوق سيعبر الكترون(6). هنا يصمت الالكترون، ويتعقل ويأخد مساره عبر شق واحد فقط لا غير ،وكانه يعرف مسبقا اننا نتجسس عليه،ونضع له اعيون تراقبه خلسة!!!
اي شيء هذا الذي ياخد تارة شكل موجة (كأي موجة مائية أو موجات صوتية…)، وتارة أخرى ياخد شكل جسيم مادي، انه ضرب من الجنون او حلم مزعج لأي عالم فيزيائي.
سؤال محير ومليء بالألغاز، سنتقبل أن جسيم مادي ذو حجم وكتلة معينين يتحول الى شبح، وياخد كل الأشكال، ويوجد في عدة أمكنة، وبجميع الحالات الفيزيائية، وفي نفس الوقت، وعندما يكون خارج عملية الرصد والمراقبة، حيث يدخل في حالة يسميها العلماء بحالة التراكب(7) “la superposition”. وهي نتيجة رياضية تعطي تفسيرا لحالة فيزيائية لا تتوافق مع أي شيء معروف في الفيزياء الكلاسيكية .
ميكانيكا الكم، تصف كيف تتصرف الجسيمات الدقيقة على المستوى الماكروسكوبي: الجزيئات، الذرات، الالكترونات …، والتي لايبدو انها تخضع لقوانين الفيزياء الكلاسيكية ونظرية النسبية.
هنا العلم يبدو حائرا وغارقا في معادلات معقدة، لاتعطينا اجوبة دقيقة، ولكنها تعطينا اجوبة تاخد شكل إحتمالات، قاسمها المشترك هو مبدأَ عدمِ اليقين(8)، الذي يتنافى بشكل قاطع مع المذهب التجريبي الحسي الذي كانت تدعو له المدرسة الكلاسيكية مند زمن “نيوتن”.
انها إحدى أجمل المغامرات العقل البشري مند ظهور اللغة الهيروغليفيةالى اليوم.
هذه النتائج أدخلت لنا مفهوم علمي غاية في السحر والغرابة، سمي بنظرية الكم “la théorie quantique”، وهي نظرية تم التأكد من صحتها في العديد من التجارب العلمية. بل اكثر من هذا ظهرت نظرية منبتقة عن نظرية الكم، وهي من صلبها، او مجددة لها، تَدَّعِي ان نتيجة اي حدث يمكن أن تؤثر في السبب، والسبب يؤثر في النتيجة في نفس الوقت، وهي فكرة أنّ السببية يمكن أن تعمل إلى الوراء وإلى الأمام في نفس الوقت، حسب تجربة اجريت في جامعة “بريسبان” الاسترالية(9).
لنظرية الكم قدرة غريبة على أسر العقول والألباب بطريقة سحرية لأنها تقربنا الى سر كبير، وهو حقيقة جوهر المادة وأصل الوجود بطريقة شاعرية وغاية في الجمال.
نحن كبشر تفصلنا عن الأجوبة الكاملة للأسئلة العميقة لفهم هذا العالم الذي نعيش فيه، محيطات شاسعة من المجهول بشرط أن يستوعب عقلنا القوانين العامة والجوهرية التي أبدعت الكون.
*الهوامش
(1): “إمبيدوكليس” فيلسوف يوناني عاش في فترة ماقبل “سقراط” من 490 ق.م إلى 430 ق.م.
(2): “افروديت” في الأساطير اليونانية هي إلهة الحب والشهوة والجمال.
(3): عالم بربطاني شهير عاش في القرن 18 قدم العديد من الإسهامات البارزة في عدة مجالات حيث أسهم في علم المصريات وعلم اللغة والفيزيولوجيا وميكانيكا المواد الصلبة والضوء وحاسة البصر والطاقة والتناغم الموسيقي.
(4): توجد المئات من الفيديوهات على اليوتوب تشرح هذه التجربة .
(5): “شرودنجر” عالم فيزيائي نمساوي معروف بإسهاماته في ميكانيكا الكم وخصوصا معادلة شرودنجر والتي حاز عبرها على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1933م .
(6): عرفت هذه التجربة بتجربة باولي، للمزيد من الفهم المرجو قراءة هذا العمود: https://sci-ne.com/article/story_5369
(7): مبدأ التراكب في الفيزياء ينص على انه في جميع الانظمة الخطية تكون محصلة تاثيرين او اكثر عبارة عن مجموع التاثيرين.
(8): يعتبر مبدأ عدم التحديد أو مبدأ عدم التأكد أو مبدأ الريبة أو مبدأ اللايقين أو مبدأ الشك من أهم المبادئ في نظرية الكم، صاغه العالم الألماني “هايزنبرج” عام 1927 وينص على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص اخرى إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي أن تحديد أحد الخاصيتين بدقة متناهية ينتج عنه ننائج غير مظبوطة في قياس الخاصية الأخرى، ويشيع تطبيق هذا المبدأ بكثرة على خاصيتي تحديد الموضع والسرعة لجسيم دقيق. فهذا المبدأ معناه أن الإنسان ليس قادرا على معرفة كل شيء بدقة 100%. ولا يمكنه قياس كل شيء بدقة 100%، إنما هناك قدر لا يعرفه ولا يستطيع قياسه.
*مصادر علمية
(9): انظر مجلة sciences et Vie عدد ماي 2019، عنوان: au delà du Quantique
*Sciences et vie mai 2019
De l’infiniment petit a l i’iniment grand ,Chapitre
*L’infiniment petit le passage de la certitude au probable. Les « incertitudes d’Heisenberg ». Relations avec les sciences de l’éducation et avec la psychologie.
*Pour la science, décembre 2000, article l’ifiniment petit en physique
*كتاب مبدأ الريبة تأليف ديفيد لندلي
مسألة غامضة، وحيرة كبرى
*فلسفة العلم ، “فيليب فرانك”.