بقلم الدكتور خالد علمي
خلال السنوات الأخيرة، تزايد الاهتمام عبر العالم بالأنشطة الرياضية الايكولوجية التي تقرب الإنسان من المحيط الطبيعي وتبعده عن ضغوط المدنية، ومن بين هذه الأنشطة برزت أنشطة المشي في الطبيعة وتسلق الجبال، وقد أصبح الوصول إلى القمم الشاهقة من الأشياء التي تُسيل لعاب عشاق الطبيعة الجبلية، ومن بينها قمة أعلى جبل في العالم “”إيفريست” بالنيبال، وقد نال المغرب نصيبه كذلك من هذه الموجة منذ العشرية الأولى من هذا القرن، والتي توجت لحد الآن بوصول 6 مغاربة (3 إناث و3 ذكور) إلى قمة جبل “إيفريست” ورفع العلم المغربي عليه، وقد برزت من بين هؤلاء المغاربة الستة المغامرة “بشرى بايبانو” التي انتشرت صورها بحجابها الإسلامي ورفعها للقرآن الكريم والعلم المغربي على قمم الجبال، وقد كانت بذلك، المسلمة الوحيدة، من بين الذكور والإناث، التي استطاعت رفع المصحف الكريم على قمم أعلى الجبال في القارات الخمس، وقد تسنى لي، بعد نشر السيدة “بشرى بايبانو” لمذكراتها في كتاب “طريقي نحو القمم السبع” وفي فيلمها “القمة”، ومرافقتي لها مؤخرا لتسلق جبل “كليمنجارو” بطانزانيا، تجميع بعض المعطيات حول هذه الشخصية الأنثوية الملهمة التي قدمت نموذجا مختلفا عن المرأة المسلمة، ومصدرا للإلهام في معرفة وتطوير الذات.
فمن هي السيدة “بشرى بايبانو”؟ وكيف يمكن فهم البعد النفسي والروحي لتجربتها؟.
مسيرة حياتية غنية ومتوازنة
ولدت السيدة “بشرى بايبانو” في عاصمة المملكة المغربية الساحلية، الرباط، عام 1969، من أب يشتغل في مجال صيانة السيارات وأم متفرغة لرعاية بيتها ومزاولة لبعض الأنشطة البسيطة التي تعين بها زوجها على مصاريف أسرتها، وهي البنت الوسطى بين أخوتها الثلاثة، درست في المدارس الحكومية كعامة أبناء الشعب المغربي، وكانت متميزة في ذلك، فقد حصلت على دبلوم الدراسات المعمقة في الفيزياء النووية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وعلى دبلوم الهندسة من المعهد الوطني للبريد والمواصلات بالرباط، ثم بعد ذلك على دبلوم الدراسات العليا في التدبير من معهد الدراسات العليا “HEC-Montréal” بكندا، وهي متزوجة بإطار حكومي عال وحاصل على دكتوراه في الفيزياء ولها بنت وحيدة تدرس حاليا بالتعليم العالي.
بعد حصولها على دبلوم الدراسات المعمقة، لم تتمكن السيدة “بشرى بايبانو” من التسجيل في سلك الدكتوراه بشعبة الفيزياء الفلكية بفرنسا، وهو المجال الذي كان يشغل اهتمامها منذ صغرها وكانت تنشط فيه في إطار العمل الجمعوي بالمغرب، وبعد حصولها على دبلوم الهندسة، استطاعت الحصول على وظيفة حكومية كمهندسة إعلاميات في وزارة التجهيز والنقل المغربية، وبعد ذلك، انكبت على حفظ القران الكريم، والذي استطاعت حفظه كاملا خلال ما يقارب الثلاث سنوات.
بالإضافة إلى نجاحها في المسار الدراسي، استطاعت السيدة “بشرى بايبانو” اكتساب مهارات موازية منذ سنها المبكر: أولا، من خلال قراءة الكتب، والتي لم تفارقها، حتى في مغامراتها الجبلية، وملازمتها للمكتبات، وهو ما مكنها من توسيع طموحاتها لتصل إلى شتى بقاع العالم، وثانيا، من خلال ممارستها للرياضة، من الفنون القتالية (حاصلة على الحزام البني في رياضة الكاراطي)، الجري، المشي لمسافات طويلة السباحة ووصولا إلى تسلق الجبال، وثالثا، من خلال العمل الجمعوي، والذي مكنها من الالتحام مع الطبيعة في ورشات الفلك وخلال برامج التخييم، وصقل مهاراتها الناعمة خلال مشاركاتها في تسيير الجمعيات المدنية.
كل هذه الأنشطة، الدراسية والمهنية وكذلك الأنشطة الموازية لم تمنعها من القيام بمهامها الأسرية والانضباط للمعايير والتقاليد المغربية، سواء عندما كانت في بيت أبويها أو في البيت الزوجية، إذ جعلت السيدة “بشرى بايبانو” من الأسرة الحاضن والداعم باستمرار لأنشطتها ومشاريعها المتعددة، لدرجة أنها كانت، ولازالت، تحرص على إبراز هذا الدور من خلال مشاركة أفراد عائلتها وأسرتها الصغيرة ووالدتها، حتى في الندوات الصحفية التي تقوم بها، وقد كانت مرافقة زوجها إلى معسكر القاعدة “Camp base” في رحلتها إلى قمة جبل “إيفريسنت”، دليلا واضحا على تشبثها بهذا الحضن الأسري، وعلى المستوى الروحي “الديني”، فيمكن اعتبارها من المتشبثين بالدين، فكرا وعقيدة، فقد برز التزامها الديني، من خلال، حفظها للقرآن الكريم والتزامها بالحجاب وحرصها على تطبيق الشعائر الدينية في حياتها العادية وخلال رحلاتها، إلى حد القيام بشعيرة الصيام عندما كانت رحلاتها تتصادف مع شهر رمضان الكريم، وما يمثل ذلك.من خطورة على حياتها، وقد كان رفعها للمصحف الكريم وارتداؤها للحجاب على أعلى القمم الجبلية في العالم دليلا على تشبثها بالعقيدة المحمدية، وحملها لمشعل الدعوة لها والارتقاء بها، أما على المستوى الإنساني، فقد حرصت على الانفتاح على الثقافات الأخرى ونسج صداقات متعددة الجنسيات خلال رحلاتها، كما حرصت على الالتزام بالتضامن الإنساني ونبذ الظلم والتهميش والعنف من خلال أنشطتها المكتفة، سواء في الميادين أو في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد ظهر ذلك جليا في مشاركاتها في حملات دعم المتضررين من زلزال الحوز في المغرب ومشاركاتها في التظاهرات الميدانية والحملات على المستوى الافتراضي، للتضامن مع الشعب الفلسطيني في خضم حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني عليه.
بالنسبة لتسلق الجبال، فقد كان اكتشاف السيدة “بشرى بايبانو” الأول لشغف رياضة تسلق الجبال عام 1995، عندما قامت بتسلق جبل توبقال، وبعد ذلك، كان تسلقها لجبل “كليمنجارو”، أعلى قمة بإفريقيا عام 2011، الشرارة التي دفعتها للمضي قدما في مشروع تسلق القمم السبع (أعلى قمم القارات)، فراكمت الإنجاز تلو الآخر، من قمة إلى أخرى إلى أن استطاعت إتمامه بالقطب الجنوبي عام 2018، وبعد نجاحها في تسلق القمم السبع، اتجهت نحو مشاركة تجاربها مع الآخر، ودلك :
– أولا، بإصدارها عام 2021، لكتابها (بالغة الفرنسية) الذي يتحدث عن سيرتها الذاتية ومسارها في تسلق الجبال تحت عنوان “طريقي نحو القمم السبع Mon chemin vers les 7 sommets”، وهو ليس بالكتاب الأدبي، لسهولة لغته، ولا بالكتاب التقني، لتفاديه الدخول في الوصف الدقيق لتقنيات و أحدات مغامرات تسلق الجبال، فقد نهجت فيه منهجية علمية في سرد الأحداث واستنباط الخلاصات في كل مرحلة منه والخلاصات العامة للتجربة ككل، فحاولت أن تجعل منه دليلاً غنياً بدروس الحياة ومصدرًا للإلهام والتحفيز، وقد افتتح الكتاب بتقديم دقيق ومعبر جدا للصحفي “Denis Brogniard” من القناة التلفزية الفرنسية الأولى “TF1″، واختُتم الكتاب بخلاصة للدروس المستفادة من هذا المشروع الكبير، تحفز القارئ على : (1) التحلي بالقوة والشجاعة للخروج من منطقة “الراحة” ومواجهة المخاطر والتكيف مع المتغيرات، وما يتطلب ذلك من صبر وانضباط والتزام ومسؤولية، (2) التحلي بروح المحبة والتسامح والتقبل والتواضع مع الذات ومع الآخر، (3) تبادل الدعم والمساعدة مع الجماعة، بعيدا عن الحقد والغيرة والكراهية، (4) الاستفادة من تنوع التجارب الجديدة، في أفق إثراء الذات، والاستمتاع بكل لحظة من الحياة وبكل تفاصيلها، والامتنان لكل الأشياء الجميلة فيها، وقد توّج الإصدار الأول لهذا الكتاب بجائزة أفضل كتاب في صنف الشهادات، خلال الاحتفاء بالمخطوطات الفرنكفونية بباريس عام 2021.
– ثانيا، بمشاركتها في تحضير فيلم “القمة” عام 2023، الذي يوثق رحلتها انطلاقا من حضن أسرتها وصولا إلى قمة “ايفرست”، وقد قام بإخراجه السيد “مهدي مطيع”، الذي رافقها في جزء من رحلتها في النيبال، وقد حاز هذا الفيلم على جائزة “UshuaiaTV” في مهرجان “Film_Aventure_et_Découverte” الدولي في فرنسا، وتم عرضه على نطاق واسع في كل من فرنسا والمغرب.
– رابعا، بإطلاقها مشروع “تمكين الفتيات”، الذي يهدف إلى تشجيع الفتيات وتمكينهن من الوصول إلى آفاق جديدة في حياتهن وتحقيق أحلامهن، وذلك عبر ورشات وبرامج تنمية المهارات الناعمة، واستعمال الرياضة وتسلق الجبال كوسيلة لتحقيق ذلك، وتعتبر السيدة “بشرى بايبانو” هذا المشروع رسالة إلهية كُلفت بتنفيذها، بإلهام في لحظة من اللحظات العصيبة التي عاشتها خلال تسلقها لجبل “إيفريست”،
– خامسا، تنظيم رحلات لتسلق الجبال “داخل المغرب وخارجه” بالنسبة للبالغين في إطار جمعيتها “Delta Evasion”، قصد نقل تجربتها ونشر ثقافة هذا النوع من الرياضات الايكولوجية إلى فئات المجتمع، وقد تم انتخابها، لذلك، رئيسة للجنة النسوية بالجامعة الملكية المغربية للتزحلق ورياضات الجبل،
– سادسا، تنشيط الدورات والمحاضرات قي مجال تنمية المهارات الناعمة في المؤسسات العامة والخاصة، تحت مظلة مقاولتها الناشئة التي أسستها.
ترتبط شخصية الفرد بنوع من الصفات التي ترتبط بالمكان وشكله ومقدار هدوئه، وقد يمكن تصنيف شخصية محبي الجبال ضمن الشخصيات الانطوائيّة لأنها تُفضل قضاء وقتها في الطبيعة بعيدا عن الفضاء الاجتماعي، وهذا ما قد يستصعب عليها تكوين علاقات تتوافق مع التفاصيل الصغيرة التي تفكر فيها، ويجعلها تميل للاحتفاظ بمشاعرها وعواطفها اتجاه الأشخاص والأحداث، وهذه الصفة قد تمنحها في نفس الوقت صفات إيجابيّة مرتبطة بالتفكير المتزن والاستقلاليّة، وعليه فإنّ السيدة “بشرى بايبانو” قد تشترك مع محبي الطبيعة الجبلية في العديد من السمات الشخصية، أهمها: (1) البساطة، فهي من الأشخاص البسيطين للغاية في نظرتها للحياة والأمور من حولها، إذ أنّها لا تلتفت كثيرا للمظاهر الفاخرة والأشياء الفارهة، ولا تحاول جلب الانتباه إليها إلا من خلال سعيها وجديتها وتميزها الذي تُسعد به نفسها، أولا وقبل كل شيء، (2) التوازن، الذي تستمده من هدوء الطبيعة، (3) طريقة التفكير التي ترتبط عموما باللحظة ذاتها، إذ لا تصرف جهدًا كبيرا في التخطيط للمستقبل البعيد، فيكون التركيز لديها على كل خطوة عوض التركيز على أكثر من خطوة في وقت واحد، (4) الحذر، الذي ينعكس في طريقة تعاملها مع الوقائع من حولها، والتصرفات التي تسلكها لتجاوز أمر ما وحلّ مشكلته، (5) النقاشات المحدودة، إذ أنها تفضل الأحاديث المرتبطة بالطبيعة والحياة عموما، فتحاول المشاركة وإبداء الرأي وتبادل وجهات النظر العميقة التي تترك أثرًا عند الشخص المقابل مهما كانت درجة ثقافته، (6) الاستماع الجيد، الذي يجعلها من الأشخاص الجديرين بالثقة للتفاعل الجيد مع مشاكل الآخر وتوجيهه عند طلب المساعدة.
إنها مسيرة حياتية مليئة بالتجارب والتحديات، كللت بإنجازات متعددة الاتجاهات: الدراسة، الوظيفة، الأسرة، الدين، الرياضة، الكتابة، المقاولة، الجمعية…، وفي نفس الوقت، هو أسلوب حياة، إذ بمجرد ما تنتهي السيدة “بشرى بايبانو” من تجربة حتى تبدأ التخطيط لأخرى، فهي تعشق التحديات وتجعلها من طعم الحياة، وتجد في الإنجازات السعادة والرضا عن النفس والمحفز لإنجازات أخرى، فهي بذلك تستحق تمثيل النموذج للمرأة المسلمة الحرة والمتطلعة إلى معرفة الوظيفة والرسالة التي أناطها الله بها في هذه الدنيا.
انخراط بعزم وتبات في مسار تسلق الجبال
في السنوات الأخيرة، تزايد طموح العديد من متسلقي الجبال لوصول إلى أعلى القمم في العالم، وقد أدى هذا التحدي إلى بلورة ما يسمى بـ “مشروع تسلق قمم القارات السبعة”، وقد كان أول من صنف هذه الفمم وتسلقها جميعا البريطاني “ريتشارد باس” والإيطالي “رينولد ميسنر”، خلال الثمانينات، اعتمادا على قائمتين تختلفان، فقط، في مسالة اعتبار جبل “كارستينز” الإندونيسي من جبال قارة آسيا (قائمة “باس”) أو من جبال قارة أستراليا (قائمة “مايسنر”)، وقد حسم الخلاف بينها في السنوات الأخيرة لصالح قائمة “مايسنر”، والتي تظم سبع قمم جبلية موزعة عبر القارات، وهي كالآتي:
1 – جبل “إفرست Everest” (8848 متر)، وهو أعلى جبل في قارة آسيا والعالم، ويتواجد ضمن سلسلة جبال الهملايا الصينية-النيبالية، ما بين منطقة “التبت” الصينية (ذات الحكم الذاتي) ومنطقة “سجارماتا” النيبالية، وقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى المسٌاح الجغرافي البريطاني “جورج إيفرست”، وقد أدى وصول النيوزيلانديين “إدموند هيلاري” و”تنزينج نورجا” إلى قمته لأول مرة عام 1953 إلى تأجيج الأحلام الشعبية ومحاولات المغامرين (أزيد من 14 ألف محاولة إلى حد الآن) للوصول إلى هذه القمة، وبسبب الارتفاع الكبير لقمته وارتطام التيارات الهوائية بها، يواجه المتسلقون مخاطر الرياح العاتية، بالإضافة إلى مخاطر العواصف والانهيارات الثلجية،
2 – جبل “أكونكاغواAconcagua ” (6962 متر)، وهو أعلى قمة في أمريكا الجنوبية، ويقع في مقاطعة “ميندوزا” في الأرجنتين، المحاذية للشيلي، ضمن سلسلة جبال “الأنديز” وحديقة “أكونكاغوا” الريفية، التي تضم عددًا من الأنهار الجليدية، وتنتشر فيها الصخور البركانية الفتاتية والرواسب الملونة وأملاح الأحماض الكربونية والأحجار الجيرية كرواسب وتكتلات من أصل بركاني، وقد تم الوصول إلى قمته عام 1897 من طرف السويسري “ماتياس زوربريكن”،
3 – جبل “دينالي Denali” (6190 متر)، أو كما كان يسمى سابقا جبل “ماكينلي McKinley”، وهو أعلى قمة جبلية في أمريكا الشمالية، ويتواجد في سلسلة جبال “ألاسكا”، في منتصف منتزه ومحمية “دينالي” الوطنية، وقد كان أول وصول ناجح لقمته عام 1971 من طرف المغامر والرحالة الياباني “أويمورا ناؤمي”، ومنذ عام 1990، تم وضع وتطوير محطات للأرصاد الجوية على المرتفعات القريبة منه (على ما يقارب 6000 متر قصد جمع بيانات الطقس في الظروف الجوية القاسية وعلى المرتفعات الشاهقة، ويسجل هذا الجبل درجات منخفضة جدا من الحرارة قد تصل إلى 60 درجة مئوية تحت الصفر قي فصل الشتاء و 30 درجة مئوية تحت الصفر قي فصل الصيف،
4 – جبل “كليمَنجاروKilimanjaro ” (5895 متر)، وهو الجبل الأكثر ارتفاعا في قارة إفريقيا، ويقع في شمال شرق تنزانيا، بالقرب من الحدود الكينية، ويتألف من ثلاثة مخاريط بركانية هي: “ماوينسي” و”شيرا” وقمة الجبل “كيبو”، وهو جبل مستقل لا ينتمي لأية سلسلة جبلية ويمثل أقرب نقطة تغطيها الثلوج من خط الاستواء، ضمن محميات وحدائق وطنية، أهما منتزه كليمنجارو الوطني المسجلة ضمن قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، وتبدأ منطقة هذا الجبل بمنطقة زراعية ممطرة مابين 800 متر و 1800 متر، ومنطقة غابوية تحتوي على نباتات وحيوانات متنوعة مابين 1800 متر و 2800 متر، وبسبب موقعه المعزول يتميز هذا الجبل برياح منحدرة نهارية وليلية، ويوجد فيه موسمان ممطران متميزان، أحدهما بين شهر مارس ومايو والآخر في غضون شهر نونبر، كما يبلغ متوسط درجة الحرارة في قمته حوالي 7 درجة مئوية، قابلة للانخفاض ليلا إلى درجة 9 مئوية تحت الصفر، وقد تصل خلال ليالي التبريد الإشعاعي الشديد إلى مابين 15 و27 درجة مئوية تحت الصفر، وقد كان أول من وصل إلى قمة جبل “كليمنجارو” المغامر الألماني “هانز ماير” والمغامر النمساوي “لودفيج بورتشيلر” عام 1889، وتجدر الإشارة إلى أن صعود هذه القمة لا يحتاج إلى معدات أو خبرة في مجال تسلق الجبال، فيكون بدلك احتمال الإصابة بداء المرتفعات العائق الأساسي أمام متسلقه،
5 – جبل ‘إلبروس Elbrouz” (5642 متر)، وهو أعلى قمة جبلية في قارة أوروبا، ويقع في سلسلة جبال القوقاز الغربية في روسيا بالقرب من الحدود مع جورجيا، وتعتبر هذه السلسلة مع جبال “الأورال” الحد الفاصل بين آسيا وأوروبا، ففي الفترة الصيفية مابين شهر يونيو حتى منتصف شهر شتنبر، تكون 50% من الأيام مشمسة وتسمح بالصعود للقمة، مع إمكانية هبوب رياح عنيفة وعواصف ثلجية قطبية قد تؤدي إلى انخفاض سريع في درجات الحرارة، أما في الشتاء فيمكن أن تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون 50 درجة تحت الصفر عند القمة، وقد كان أول وصول لقمة هذا الجبل عام 1874 من طرف بعثة بريطانية كان من ضمنها الدليل السويسري “بيتر كنوبل”،
6 – جبل “فينسون ماسيف Vinson Massif” (4892 متر)، وهو أعلى قمة في القطب الجنوبي المتجمد، يقع ضمن سلسلة جبال “إلسورث”، في منطقة الوصاية التشيلية، وكما هو الحال في المناخ القطبي، فإن الرياح العاتية وتساقط الثلوج يمكن أن تتسبب في تراكمات ثلجية كبيرة وانخفاض في درجات الحرارة التي قد تصل إلى أقل من 30 درجة مئوية تحت الصفر، وقد اكتُشف الجبل في عام 1958 من طرف الطائرات البحرية الأمريكية، وسمي بعد ذلك على اسم عضو الكونجرس الأمريكي”كارل فينسون” لدعمه حملات استكشاف القطب الجنوبي، وتم تسلقه لأول مرة عام 1966 من قبل فريق أمريكي بقيادة “نيكولاس كلينش”، وهو جبل لا يشكل الكثير من الصعوبات الفنية، مقارنة بجبال أخرى، سوى ما يتعلق بمخاطر السفر المعتادة في القارة القطبية الجنوبية،
7 – جبل “كارستينزCarstensz ” (4884 متر)، وهو أعلى قمة في قارة أستراليا، وينتمي إلى سلسلة جبال “سوديرمان”، المتواجدة في الغرب الأوسط من إقليم “بابوا” بجزيرة غينيا الجديدة الإندونيسية، ومع أن قمة الجبل هي عموما خالية من الجليد، فإن الأنهار الجليدية متواجدة بكثرة في منحدراته كنهر “كارستينز” الجليدي، ولا تعرف هذه المنطقة الاستوائية تغيرا ملحوظا في معدل درجات الحرارة خلال السنة، وقد تم تسلق هذا الجبل لأول مرة عام 1962.
بالنسبة للسيدة “بشرى بايبانو”، كانت بداية مشوارها في تسلق الجبال في عام 1995 حين تسلقت جبل توبقال (4167 متر)، كأعلى قمة في المغرب وشمال إفريقيا، وفي يناير عام 2011، تسلقت، برفقة زوجها، قمة “كليمنجارو Kilimanjaro”، وكان ذلك بمثابة انطلاق رحلتها نحو تسلق الجبال السبع، ففي يونيو عام 2011، تسلقت “الجبل الأبيض “Mont Blanc (4809 متر)، وهي أعلى قمة في أوروبا الغربية، وكان ذلك في إطار استعداداتها التقنية لتسلق الجبال السبع، وفي يونيو عام 2012، تسلقت قمة “البروس Elbrouz” في روسيا، وفي أواخر عام 2012، قامت بأول محاولة لتسلق قمة “اكونكاكوا Aconcagua ” بالارجنتين، والذي نجحت في تسلقه في المحاولة الثانية في يناير عام 2014، وفي يونيو عام 2014، تسلقت قمة “ديناليDenali ” بأمريكا، وفي غشت عام 2015م، تم توشيحها من طرف ملك المغرب، محمد السادس، بوسام الاستحقاق الوطني من درجة “ضابط”، خلال احتفالات عيد الشباب، وفي نوفمبر عام 2015 تسلقت قمة “كارستنز Carstensz” بأندونيسيا، وفي مايو عام 2017، استطاعت تسلق قمة “ايفرستEverest ” بالنيبال، وكانت بذلك أول امرأة من المغرب وشمال إفريقيا وثالث امرأة عربية تحقق هذا الإنجاز، وفي دجنبر عام 2018، تمكنت من الوصول إلى قمة جبل “وينسونWinson ” بالقطب الجنوبي، وكانت بذلك آخر محطة في مشروعها لتسلق الجبال السبع.
ويبدو أن السيدة “بشرى بايبانو” لم تكتفي بهذا الإنجاز، بل تعدته بالتفكير في مشروع آخر يهدف إلى تسلق سبعة قمم أخرى، يفوق ارتفاعها الثمانية آلاف متر “8K”، ففي عام 2022، تسلقت جبل “أنابورنا Annaporna” (8091 متر) بالنيبال مع فريق مكون من جنسيات مختلفة، وهو الجبل الملقب بـ “جبل الموت” الذي لم يستطع الوصول إلى قمته سوى القليل من متسلقي الجبال، لحد الآن، وذلك بسبب وعورته والانهيارات الثلجية التي يشهدها، وقد كانت بذلك أول امرأة عربية تصل إلى هذه القمة واستحقت بذلك رسالة تهنئة خاصة وجهت لها من طرف العاهل المغربي على هذا الإنجاز، وفي عام 2023 تسلقت جبل “لوتسيLhotse ” (8516 متر)، وهو رابع أعلى قمة في العالم، ويتواجد بالقرب من جبل “إيفريست”، وهو جبل يتميز بذروته التي تأخذ شكل برج مستقيم، وهذا ما يجعله أحد الجبال الأكثر صعوبة للتسلق في العالم.
ونظرا للتكاليف المادية الباهظة التي تتطلبها رحلات تسلق الجبال العالية، والتي تفوق بكثير الإمكانيات الخاصة (قد تصل في بعض الرحلات إلى 80 ألف دولار أمريكي)، فقد كاد البحث الشاق عن الداعمين الماليين لرحلاتها المكلفة -جدا- أن يكون عائقا أمام تحقيق الهدف، لولا الإصرار والعزيمة والتبات الذي لازمها في جميع خطواتها، في وقت لم يكن تسلق الجبال من الرياضات المعروفة لدى المغاربة، ولم يكن في المتخيل الشعبي أن تتمكن امرأة مغربية “عادية” -متزوجة وأم لطفلة- خوض مغامرة القمم السبع الكبيرة والغير معروفة آنذاك.
تسلق الجبال تحفيز للشعور بالسعادة والرضا والمتعة
في خضم الانشغالات اليومية والمسؤوليات العديدة، أصبح الإنسان ضحية ضغط نفسي كبير، وهذا ما يترجم نجدته بالأماكن الطبيعية والجبلية التي تساعده على التحسن التلقائي لصحته النفسية والبدنية وتفريغ الطاقة السلبية، فقد أوضحت الدراسات العلمية أن مشاهدة المناظر الطبيعية تقلل من الضغط أو المشقة وتؤدي إلى حالة مزاجية ومشاعر أكثر إيجابية، كما يمكن أن تساعد على الشفاء من المرض، فإذا كانت للانفعالات التي تتولد لدى الإنسان بسبب الضغوط تأثيرات سلبية على تكوينه البدني والنفسي وتفضي إلى المرض، فان الانفعالات الإيجابية تمكن الإنسان من استعادة عافيته النفسية وتجدد طاقة إقباله على الحياة، وتمكنه من ولوج مستوى مرتفع من الإبداع والمواجهة الإيجابية للضغوط، ويعتبر البعد البيئي من أهم الوسائل التي تعمل على تنمية وتطوير الحالة النفسية، ومن ضمنه الجبل الذي يوفر للإنسان راحة وصحة نفسية كبيرة ويعمل على تنمية الانفعالات الإيجابية واستغلالها في إدارة الذات، فقد لوحظ أن للجبال، بتنوع ألوانها وأشكالها، قدرة على تحريك مشاعر الناس وأن النظر إليها يهدئ النفس ويرخي الأعصاب وببعث بالسرور والراحة والطمأنينة، وملازمتها تعدل الطبع والمزاج وتسمو بالروح، أما على مستوى إدراك الإنسان لموضوع الجبل، فيكون إما بكيفية سلبية أو بكيفية إيجابية، فللأنا القوية علاقة آمنة مع الجبل تدفعه للإحساس بالراحة أو الاطمئنان أو الهيبة، أما الأنا الهشة فتظهر علاقة غير آمنة تدفعه للإحساس بالقلق أو الخوف أو التجنب، كما هو الشأن بالنسبة للعلاقة مع الأب، الذي يعتبره البعض رمزا للفخر والقوة ويعتبره البعض الآخر رمزا للتسلط، وهذا هو ما يميز محبي الجبال عن غيرهم.
ويمكن إدخال الرغبة في تسلق الجبال الخطيرة ضمن سمة “اشتهاء الإثارة”Sensation Seeking عند بعض البشر، والتي يُقصد بها في علم النفس، سمة البحث عن التجارب والأحاسيس المتنوعة والغير مألوفة والمُركّبة والقوية التي تجعل صاحبها مستعدا للخوض في المخاطر، وهي سمة تكاد أن تكون قريبة من الإدمان، ويقسم علم النفس اشتهاء الإثارة إلى أربعة مركبات شخصية رئيسية تتنوّع من فرد لآخر: (1) المغامرة التي تجعل الشخص يبحث عن تحديات جسدية تحوي جانبا ما من الخطر كسباق السيارات أو تسلق الجبال الخطيرة أو مطاردة الأعاصير، (2) التجارب الجديدة التي تتمثل في الانفتاح على غير المألوف من الثقافات والأشخاص، مثلا، (3) التلقائية التي تتضمّن الرغبة المباشرة في الانخراط بالأشياء المُثيرة، بغض النظر عن النتائج أو الحاجة إلى حسابها، (4) رفض التكرار والملل السريع الذي يدفع المرء إلى البحث عن الجديد، وبذلك يكون اشتهاء الإثارة بمثابة طيف واسع يمتد بين حالة الاشتهاء الشديد للإثارة وحالة الرغبة الشديدة في تجنّبها، ويقع معظم البشر في نقطة ما بالمنتصف بينهما، لأن الدماغ يوازن دائما بين منظومة المكافأة ومنظومة تجنّب المخاطر، فالأولى تميل ناحية إفراز المزيد من “الدوبامين “والدفع للإقدام على خطوة ما، أما الثانية فتقلل من إفراز “الدوبامين” وبالتالي تثبّط الهمة تجاه تلك الخطوة، فبالنسبة للأشخاص الذين يميلون إلى اشتهاء الإثارة، دائما ما ستميل أدمغتهم إلى إفراز “الدوبامين” بصورة أكبر أثناء التجارب المثيرة، بالإضافة إلى ذلك فإنهم يحصلون على قدر أقل من “الكورتيزول” (المادة التي تُفرزها أجسامنا في حالات التوتر والإجهاد)، وبالتالي فإن أدمغتهم تُفضِّل منظومة الإغراق في المكافآت على منظومة تجنّب المخاوف، بمعنى أنها تولي اهتماما بحجم التجربة الجديدة، بدرجة أكبر من الآثار السلبية لها، هذا وتجدر الإشارة هنا أن اشتهاء الإثارة يمكن أن يتسلّل إلى كل جانب من جوانب الحياة، بما في ذلك ما يختاره المرء لتناول الطعام والهوايات والموسيقى وطريقة القيادة والنكات وكل الممارسات التي يقوم بها من أجل المتعة، فهذا الشخص الذي يشتهي الإثارة لا يواجه بالضرورة مشاكل نفسية، وإنما هو فقط يطارد معنى الحياة من خلال هذا النشاط المثير الذي يبدو غير مؤمّن بالنسبة للآخر، فهو يعتبر الأمان ضرورة لاتخاذ الخطوة وليس عائقا، وقد يرتبط اشتهاء الإثارة أيضا ببعض المزايا، فمثلا، يكون انخفاض درجة الخوف عند هؤلاء الأشخاص مرتبطا بالرصانة والصلابة في تصرفاتهم خلال المواقف الحياتية الصعبة، لأنهم ينتظرونها من الأساس، ويصبحون أكثر شغفا حينما تصبح الأمور أكثر تركيبا وتعقيدا ويصعب توقّع مصيرها المستقبلي، كما لو أنهم صُمِّموا للتعامل معها.
ومن جهة أخرى، فقد توصل علماء النفس العصبي إلى أن السعادة مرتبطة بحالة ما يسمى بـ “التدفق الذهني”، وهي الحالة التي تتسم بالاستغراق الكامل والتركيز الحاد في المهمة التي تجعل المرء لا ينشغل سوى بالنشاط الذي يعكف على تأديته، فيفقد حينها الإحساس بالوقت ويشعر كأن تصرفاته تتماهى مع وعيه وأن جميع الأمور تحت سيطرته، وهي حالة لا تستنفد الطاقة، فلا يشعر المرء بعدها بأنه منهك بدنيا أو ذهنيا، وتقتضي وجود توازن بين صعوبة المهمة وبين مستوى مهارة المرء، واللذان يجب أن يكونا مرتفعين، بمعنى أن المهمة يجب أن تنطوي على بعض التحديات وأن القائم بها يجب أن يتمتع بمهارة عالية تجعله قادرا على تأديتها، وقد لوحظ وجود نشاط زائد في المناطق المرتبطة بالمكافأة والتحفيز من الدماغ عند الوصول إلى حالة التدفق، إذ تنشط المناطق المرتبطة بالتركيز على الذات وكذلك المسارات العصبية المرتبطة بالمكافأة، التي تعزز التفاؤل والترابط الاجتماعي وتحجب تأثير الضغوط النفسية، كما تنخفض استجابات المناطق المرتبطة بالمشاعر السلبية، مثل لوزة الدماغ، وهذا ما يفسر شعور المرء بالسعادة والرضا والمتعة في حالة التدفق الذهني، فهذه الحالة تساهم في التخفيف من المشاعر السلبية والحماية من الإنهاك النفسي والاكتئاب وتعزز المشاعر الإيجابية في أوقات الانتظار وعدم التيقن، وهي حالة نجدها في الواقع عند الأشخاص الذين يستمتعون بالمهام التي يؤدونها، كمتسلقي الجبال الخطيرة.
وهكذا تنتقل الحالة النفسية لمتسلقي الجبال في مسار علاقتهم بالجبل من مرحلة الاكتشاف التي تمنحهم الإحساس بالاطمئنان والإعجاب، إلى مرحلة اشتهاء الإثارة التي تجعلهم في مطاردة لمعنى الحياة، ثم مرحلة التدفق الذهني التي تمنحهم السعادة والرضا والطاقة الإيجابية.
تسلق الجبال تجسيد لرحلة الحياة
جاء في سورة النازعات من القرآن الكريم قوله عز وجل: {وَالجِبَالَ أَرْسَاهَا. مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}، وهذا ما يدل على أن الجبال مَتاع النفس والروح والعقل والجسد، فضلًا عن كونها مصدرَ نفعٍ للبشريةِ، باعتبار وظيفتها الجيولوجية الأساسية وهي تثبيت الأرض، فهي الحصن الذي يَقِي من البرد والحر، لقوله تعالى: في سورة النحل: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالٍ أَكْنَاناً}، والأكنان جمع كِنّ، وهو ما يستتر فيه سواء أكان غارًا أو مكانًا عاليًا أو بيتًا منحوتًا، ولعل الجبال هي ذلك الموطن الذي نَعتزل الخلق فيه، ومهما بَدت الجبال متشابهة في الشكل أو متقاربة في الارتفاع، فهي تختلف في تضاريسها ومَساراتها، إذ تُوجد جبال تَتَوَسَّطُهَا الوديان والأنهار، فتَزيد كثافةُ الغاباتِ المتواجدةِ بها من هيبتها، وتُوجد جبال أخرى تَكْتَسِحُها الصخور الصلبة، وأخرى تكتسحها الثلوج البيضاء، ومهما غيرت الجبال من كِسوتها وزينتها بين فصول السنة، فإن سمة الشُموخ والاستقامة لا تفارقها على مَمَرِّ الأزمان.
إن روعة الجبال وإبداع الله في كونه، هي أسباب كافية مِن شأنها أن تدفع الناسَ لاكتشاف العوالمَ الخَفِية لهاته العظمة، والاستمتاع بها عن قرب وبشكل أكبر، فمُتسلقو الجبال لهم فلسفة بسيطة في الحياة، يَقصِدونها برغبة واحدة وهي صلة الرحم مع الطبيعة، ويَقصدونها لأنهم في حاجةٍ إليها، للتزود بالقليلَ مما تتوفر عليه من وقوِد للحياة، ألا وهو الصمود والإصرار، فتسّلق الجبال هو تمرين للعقل والجسد على تَحمل الصعوبات والتعامل مع الضغوطات، وهو رحلةِ لاكتشاف الذات وإثباتها، وهو كما قيل عنه: “لا تتسلق الجبال ليراك العالم وإنما لترى أنت العالم”، فالعالم يبدو من الأعلى صغيرًا وموضوعًا يُكتب على هامش الورقة، وكما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “الذي يَصعد الجبال الشاهقة يَضحك على كل المآسي، مسرحيات كانت أم حقيقة”، فمن فوق، تَتضح الرؤية فَنَسْتَصْغِّرُ كل شيءٍ مبالغ في تقديره، ويبدو مشهد الحياة على الأرض أكثر واقِعيةً وأقل دراماتيكية، ففي المرتفعات الشاهقة، يكونُ الإنسان أقرب من السّماء، فيلامس السحّاب بعيدا عن ضَجيجِ وتَلوثِ وخُبثِ الحياة، حيث تكون له فرصة فريدة من نوعها لمناجاة الخالِق وملامسة عَظمته وإبداعه في خلقه، وبعد صعود الجبل والنُزول منه، يعود إلى أرض الواقع “القاع” إنسانا مُختلفا، أكثر إِقبالاً على الحياة، ومُزَودا بالطاقة الإيجابية والمعنويات العالية التي ستساعده غلى التغلب على مشاكل الحياة بامتياز.
إن رحلة قمم الجبال هي بمثابة لِقاء مع العلو والشموخ، لِقاء يَسوده ذلك الصمت الأنيق وذلك الصبر الجميل، وهي تَجسيد لِرحلة الحياة، فكُلَّما تَفَوَّق الإنسان على جبلٍ وفَرِح بإنجازه هذا، كُلَّما اكتشف بعد أيام معدودةٍ أن الأمر جِد عادي، ولا يستحق كل هذه الفرحة، وأن ما قام به سرعان ما سَيَدْخُلُ في طَيَّ النسيان، وهذا ما يَدفعه إلى رَفع سَقف تَّحَدِّياتِه شيئًا فشيئًا، كما هو الحال في طموح الفرد في الحياة عموما.
خاتمة
لقد كانت تلك بعض الإشارات التي قد تساعد في فهم طبيعة تلك الشخصيات التي تميل إلى الخوض في تجارب جديدة، كتسلق الجبال، وتعتبر العواقب المتوقعة هي الهدف الأساس، والتي عبر عنها متسلّق الجبال الإنجليزي “جورج مالوري’، الذي كان مشاركا في أولى بعثات استكشاف جبل “إيفرست”، في جواب له عن سبب رغبته في تسلق جبل إيفربست بقوله: “لأنها موجودة هناك” (أي في القمة)، فهناك من الناس مَن يجد معنى لحياته في كل جديد يتعرّض له، و يزدهر في كل بيئة توفر له المزيد من الإثارة.
إنه نمط حياة من يُحب صعود الجبال ولا يرغب في العيش أَبَدَ الدهر بين الحُفر.